المقاربات المعتمدة في التوجيه والإرشاد المهني

يعتمد هذا الأنموذج في التّوجيه المهْني على علم النفس الفارق، ونظريات الأنماط، إذ يفترض نوعاً من الثّبات في المنظومة الاجتماعية ومواطن العمل وطاقات الأفراد، وينطلق من التعرّف الدقيق على مطالب المهنة وخصائصها وشروط تعلمها وممارستها من جهة، وتقييم خصائص الأفراد وتشخيصها من جهة أخرى، ثم قياس درجة المواءمة بين المستويين. ويتمكن الفرد من خلال هذا الأنموذج من تفهم بعض إمكانياته، لكنه يبقى حسب هذا الأنموذج سلبيّاً نوعاً ما، ويتلقى التّوجيه المعتمد على خبرة المستشار وأدواته، وأهمّ النظريات المرجعية لهذا الأنموذج هولاند (Holland) وسوبر (Super).

ظهر في الستينيات تياران فكريان مختلفان، يتمركز الأول حول الشخص والآخر حول المجموعة، وهذان التياران هما:

علم النفس الإنساني: محادثة الإرشاد/ نظرية كارل روجرز (Rogers):

وتعتمد نظرية روجرز (Rogers, 1951) على فكرة أن الفرد كلما كان واعياً بذاته ومتقبلاً لها، كان قادراً على التطوّر، والاختيار، واتخاذ القرار، وتجاوز الصعوبات التي تحول دون اندماجه وتكيّفه مع المحيط. وفي هذه المقاربة يتغير دور المستشار أو الموجه المهْني من المختص "الملم بكل شيء" والمحدد للخيارات المهْنيّة للفرد الذي "لا يعرف شيئاً" إلى دور المساعد الميسر. 

النظريات المرتبطة بديناميكية المجموعة:

أشار عبيد (2009) إلى إسهامات كيرت ليفين (Kurt Lewin, 1947) أحد رواد علم النفس الاجتماعي في تطوير دراسات المجموعات، والذي أطلق على هذه الدّراسات ديناميكيات الجماعة عن طريق التفاعل والوعي الجماعي المتزايد بين أفراد الجماعة، حيث تفوق الشخصية الجماعية شخصية الفرد من حيث الأهمّية، وأضاف حول ظاهرة اتخاذ القرار داخل المجموعة ومفاهيم ديناميكية المجموعة، وكيف تصبح المجموعة محركاً قوياً وفاعلاً في تطوّر وتغيّر الأفراد –إذا ما توافرت بعض الشروط الأساسية في تنشيط تلك المجموعة-، وبالتالي تصبح للمجموعة القدرة على دفع الفرد نحو إيجاد الحل لمشكلاته وأخذ القرار، ولهذه الأعمال علاقة مباشرة مع ما نراه اليوم في مجال التّوجيه والإرشاد المهْني من طرق ومناهج وتقنيات.

وساعد أنموذج ليفين (Lewin) على إحداث التغيير بنجاح من خلال المراحل الآتية:

إذابة الجليد: وفي هذه المرحلة يتم التخلص من الاتجاهات والقيم والممارسات والسّلوكيات التي يمارسها الأفراد في الوقت الحالي.

التغيير: وهنا يتعلم الأفراد أساليب عمل ومهارات جديدة وتتوافر لهم بدائل جديدة، ويحذر ليفين (Lewin) في هذه المرحلة من الإقدام بشكل متسرع، لما سوف يترتب عليه من مقاومة شديدة ضد التغيير (اللوزي، 2002).

إعادة التجميد: ويشير ليفين (Lewin) بأنه لا يكفي القيام بالتغيير، بل المهم الحفاظ على ما تم عمله، وعلى المكاسب الناتجة عنه، من خلال المتابعة المستمرة لنتائج عملية التغيير وتقييمها، وتشجيع الاقتراحات الخاصة بالتطوير مما يساعد على تثبيت التغيير (ماهر، 2005).

ورد في دليل أنشطة الإعلام والمساعدة في التّوجيه (2011، 202) أن المقاربة التربوية هي: "مقاربة عامة تربوية، مستمرة معتمدة من فريق تربوي، يتبنى أنشطة تهدف إلى تمكين المتدربين من بلورة اختياراتهم والاندماج في الحياة المهْنيّة، آخذة بعين الاعتبار تطلعاتهم وجميع متطلبات محيطهم العائلي والسوسيو-مهني. وتتمحور حول ثلاثة مجالات: التمثيل الإيجابي للذات (تقدير الذّات وإعطاء قيمة لها)، ومعرفة التكوينات، ومعرفة العالم الاقتصادي والاجتماعي".

ويهدف التّوجيه والإرشاد المهْني حسب المقاربة التربوية إلى المواءمة بين قدرات الأفراد واستعداداتهم وميولهم بما يناسبهم من مهن، وذلك من خلال توفير المعلومات المرجعية المناسبة حول قدراتهم وميولهم واستعداداتهم وحول المهن والفرص المتاحة ومتطلباتها، فيوفّر عليهم الجهد والوقت والمال، ويقلل من اختياراتهم العشوائية أو القائمة على التقليد والمحاكاة.

ويتم ذلك من خلال رسم الهدف المهْني الذي يتضمن مجموعة من الخدمات التي تهدف إلى مساعدة الفرد الباحث عن ذاته مهنياً في علاج مشكلاته، والعودة إلى حالة التوافق النفسي والمهْني، من خلال ربط التوجهات والخيارات المهْنيّة باحتياجات التنمية ومتطلبات سوق الشّغل. وتلغي وفقاً لذلك التكدس في بعض المهن، وبالتالي تساهم هذه العملية بقدر جيد في تقليص نسب البطالة.

ويهتم هذا المنهج باستخدام أساليب القياس ووسائله، والنظريات المتخصصة في التعامل مع المشكلات المهْنيّة من حيث: تشخيصها، والوقوف على أسبابها، ووضع خطط لعلاجها، وذلك على يد متخصصين في مجال التّوجيه والإرشاد المهْني، ويمكن وصف هذا المنهج بأنه عملية بناء يشارك فيها الفرد بصفة كلية، والجانب المهم هو "كيف سنختار". أي محاولة التوفيق بين ما هو مرغوب وبين ما هو قابل للتحقيق.

وتستخدم هذه المقاربة في رسم الهدف المهْني أربع مراحل متداخلة معتمدة على عدة نماذج، مثل: الأنموذج الكندي (ADVP)، وأنموذج جاك ليموج (Jacques Limoges)، وأنموذج جيلات (Gelatt)، وأنموذج تولبرت (Tolbert).

ورد في دينيز (Deniz, 1983) وصبرينة (2014)، وابن عمر (2015) أن "بلوتي" ((Pelletier و"بوجولد" (Bujold) و"نوازو" (Noiseux)  من جامعة كندا مطلع السبعينيات وضعوا سلسلة "التربية على اختيار مجرى الحياة"، وتستهدف النضج المهْني والشخصي، كما تناولوا مراحل التّوجيه المهْني "تنشيط الجوانب المهْنيّة والشخصية وتنميتها" (ADVP)، "Activation & Development Vocational Personal" في التدريب على الاختيار المهْني، بالاعتماد على نظريات سوبر (Super) وجينزبيرج (Ginsberg) في النمو المهْني، وتنصب (ADVP) على تحديد جوانب إجرائية لمهام النمو، ومن خلالها يحقق الفرد صيرورة اختياراته المهْنيّة والدّراسية، ومفادها أن الفرد يمر بعدة مراحل، يقوم خلالها بعدة مهام قصد إرضاء نفسه ومجتمعه، وذلك بالتركيز على نشاطه بكل مرحلة، وجاء توضيح هذه المراحل في دليل أنشطة الإعلام والمساعدة في التّوجيه (2011: 201) كما يأتي: 

مرحلة الاستكشاف: وهي المرحلة التي يتم فيها إثارة فضول الفرد حول ذاته من جهة وحول محيطه من جهة أخرى، وتحسيسه بأهمّية التفكير الاستكشافي المنفتح، وتحفيز سيولة أفكاره، وتحرير نطاق تساؤلاته وتصوراته، وذلك بقصد تزويده بأكبر عدد من المعطيات ذات العلاقة بشخصه وإمكاناته المستقبلية، وفيها يحاول الفرد الابتعاد عن عالمه الطفولي، ومحاولة القيام بأدوار الكبار، فهي مرحلة البحث النشيط عن الجديد والتغيير والملاحظة الفضولية.

مرحلة البلورة: وهي مرحلة يجمع خلالها الفرد المعلومات المتولدة لديه على شكل مجموعات كبرى، تكون عناصرها ذات طابع مشترك، وفيها يصبح الفرد قادراً على استيعاب الروابط بين المعلومات المجمعة، فهي مرحلة الفهم وتنظيم ما قام الفرد باستكشافه، وبداية ظهور مجموعة الخيارات والميول الذّاتية المهْنيّة والعامّة.

مرحلة التحديد أو التخصيص: مرحلة ينتقل خلالها المتعلم من التصور العام إلى تشكيل تصنيف تراتبي لاختياراته، بعد أن يكون قد طرح جانباً كل الاحتمالات التي لا تلائمه، فيبدأ في تحديد الخطوط العريضة لمشروعه أو اختياره بما ينسجم مع ميوله وإمكاناته وقدراته، وتسمى أيضاً هذه المرحلة بالمرحلة الواقعية، لأن الفرد يبدأ خلالها بالتمييز بين مختلف خياراته وتحديد هدفه ومساره المهْني ومشروعه، ومقارنة ما حدده بالواقع، وبمتطلبات المحيط الخارجي، وتقييم قدراته واستعداداته، ومن ثم تقييم الفجوة بين هدفه المهْني وما يتطلبه واقع المهن وقياسها.

مرحلة التنفيذ أو التحقيق: وهي مرحلة ينتقل خلالها الفرد من مرحلة المخاض الفكري والتصور المجرد والاستعداد إلى مستوى التعامل الفعلي مع فكرة المشروع، حيث يشرع في تركيز تفكيره حول دراسة المشروع من جوانبه العملية والإجرائية، محدداً الصعوبات المرتقبة والجوانب التي تستدعي وضع استراتيجيات محكمة، وتخطيطاً جيداً لضمان حظوظ أوفر لمشروعه من أجل النجاح والاستمرارية والصمود أمام الصعوبات، وتأتي هذه المرحلة تتويجاً لمرحلة التخصيص؛ وهي مرحلة عملية بها يختفي التردد، وتصبح خلالها كل التصورات التي حددت سابقاً واقعاً ملموساً يقع رسمه في مخطط عملي قابل للإنجاز والتحقيق.

أنموذج ليموج (Limoges) يحـتوي عـلى ست مـراحل، تتخـلّل مسـار الإدماج المهْني، وتسمى كل مرحلة من تلك المراحل بـ "حالة أو مرحلة العمل"، ويعتمد هذا الأنموذج بالبداية على مناقشة الطلب وتحليله، وهي المحادثة الأولى مع طالب التّوجيه التي تمكن من معرفة خصائصه الأولية، مثل: سنّه، ومستواه الدّراسي، وخبرته المهْنيّة، ثم تحليل طلبه، أي إن كان يرغب في التدريب أو استكمال التّعليم المهْني أو الأكاديمي، أو العمل المؤجّر أو العمل للحساب الخاص أو متابعة تدريب تكميلي.

وتمكن مناقشة تحليل الطلب من تحديد قدرات طالب التّوجيه بالنسبة لمستوى مهاراته للعمل حسب أنموذج ليموج (Limoges)، أي إذا كانت رؤيته المستقبلية واضحة أو إذا كان بحاجة للمرافقة بهدف تحديد مساره المهْني ومن ثم إدماجه في الحياة النشطة.

ويقترح أنموذج ليموج (Limoges) تصوراً عاماً لتحقيق عملية الإدماج الاجتماعي والمهْني، فهو أداة مساعدة في المواقف والمراحل التي يمكن فيها إشراك طالب التّوجيه في التشخيص والتنفيذ بهدف الإدماج المهْني.

يرى جيلات (Gelatt) أن عملية اتخاذ القرار المهْني عملية مستمرة، تبدأ عندما يدرك الفرد وجود حاجة لاتخاذ القرار، فيجمع المعلومات اللازمة عن النشاط الذي يريد أن يلتحق به، وتعتبر عملية جمع المعلومات من أهمّ الخطوات لمعرفة الخيارات المرتبطة بعملية اتخاذ القرار، ثم يوظف المعلومات في تحديد الجوانب المحتملة للنشاط، وتحديد النتائج، واحتمالية تحقيقها، ومن ثم يحاول الفرد تقدير النتائج المرغوبة لديه، مركزاً اهتمامه على نظامه القيمي، فيقيّم جميع الاحتمالات المتوفّرة ويتخذ قراراً قد يكون مؤقتاً تجريبياً أو قطعياً.

وتتضمّن نظرية جيلات (Gelatt) عدداً من الاعتبارات الإرشادية المهمة، وهي كما يأتي: 

مدى استعداد الفرد لاتخاذ القرار المهْني.

هل يعرف صاحب القرار إمكاناته واهتماماته وقدراته وميوله وقيمه.

هل يعرف متخذ القرار فرص التدريب والبيئة المهْنيّة المتعلقة بالعمل، من حيث متطلباتها، واحتياجاتها (عبد الهادي والعزة، 1999: 75-76).

حدد هذا الأنموذج المراحل المهْنيّة والمستوى العمري والمهارات اللازمة لكل مرحلة على النحو الآتي:

الوعي: (من الروضة حتى الصّف السادس الأساسي)، وفي هذه المرحلة يتم توعية الطّلبة بإدراك ذواتهم، ومساعدتهم على توسيع آفاقهم المهْنيّة، وإدراك قيمة العمل.

الاكتشاف المهْني: (من الصّف السادس حتى الثامن)، إذ يتدرب الطّلبة في هذه المرحلة على تطوير مفاهيمهم عن ذواتهم، وتقدم لهم معلومات أوسع في مجال المهن وعالم العمل.

التّوجيه المهْني: (التاسع والعاشر)، يقدّم للطلبة معارف عن متطلبات المهن، والجوانب النفسية والاجتماعية المتعلقة بالعمل، ويساعدهم على بناء ذواتهم وتوضيح مفاهيم عنها.

الإعداد المهْني: (من الصّف العاشر إلى الثاني عشر)، حيث تقدم لهم معارف لإعدادهم من أجل الدخول في المهنة، وتوضح لهم عادات العمل وأخلاقياته، والعوامل النفسية والاجتماعية المتعلقة به، والتدريب اللازم للدخول فيه، كما توضح لهم ميولهم المهْنيّة.

ما بعد المدرسة الثانوية: وبها يتعرف الخريجون على الاختيار المهْني وعلاقته بالميول والقدرات، ويساعدهم المستشارون على تطوير مهارات مهنية وشخصية للدخول في المهنة (حمود، 2014).